كنتُ واقفةً خلفَ الضابطِ في صالةِ الانتظارِ في إدارةِ الخدمةِ الاجتماعيةِ. كانت أجواء الصالةِ باردةً و جُدرانُها مَطليَّةً باللونِ الأبيضِ الناصعِ و مُطَوَقةً بالقِرميد الأسود.كَانت هُناكَ مَجموعَةُ كَراسي صَغيرة سوداء مِن جنسِ البلاستك مَصفوفةً في جانبي الصالةِ.
وَقفنا كِلانا بتَبَرُمٍ و نُمَحلقُ في البابِ طويلًا بانتظارِ دخولِ والدي و حَسمِ القضية مَعه و کانت دقاتُ الساعةِ الكبيرةِ المُزيَّنة بتَهاويلَ ذَهبيةٍ والمعلقة على حائطِ الصالةِ تولد ضجيجًا لا مَهرَبَ مِنهُ فيزيدُ توتري ببطئٍ شديدٍ كأنَّ لحظةَ اللقاءِ المرعبة تَأزفُ ثانية بعد ثانية….
حتى فُتِحَ البابُ!و دَخَل ضابطٌ طويلُ القامةِ واسعُ الصدرِ مُسَلحٌ ببندقيةٍ و خَلفُهُ والدي السَمين كانَ مُقيدًا بالأصفادِ و كانَ يَبدو عَليهِ الانكسارُ و تَشير نَظراتُهُ فيهِ الهزيمةَ و قَد طَوقَت الكَئابةُ عَينيهِ المُستَديرتَين بهالتَيَن سَوداوَين. ما إنْ دَخلا حتى تَواريتُ خَلفَ الضابطِ و أحكمتُ قَبضَتي بسُترَتِه القصيرةِ. كانَ الخوف يَجتاحني من معتلى رأسي حتى قدميَّ. لقد أدرَكتُ أنني قد الحَقتُ بِهم العارَ و فضحتهم و سَجنتُ إخوَتي الخمسةَ و أبناءَ عَمي و عمي الكبيرَ و حَتَى عَبدالقَادر النذل و أنا على يَقينٍ أنهم جَميعًا يَتَوَعَدوني بالقتلِ الآن!!
أرادَ أنْ يَقتَرِبَ مِني فأخَذَ خُطوَتَين سَريعَتَين و هوَ يميل برأسِهِ الكبيرِ حتى أشارَ إليهِ الضابطُ رافعاً ذِراعَيهُ قائلاً باللهجةِ الفارسيةِ: احفظ المسافةَ سَيدي لا يَنبَغي لكَ الاقترابُ مِنها. مَا إنْ سَمِعتُ هذه الكلماتِ حتى أحسستُ بِراحةٍ عَجيبةٍ قَد تَسَللت إلى جَسَدي النَحيل.لكنَّ وُقوفَ الضَابطِ و الحُكومةِ و القَانونِ جميعاً إلى جانبي لم يكن كافيًا لحِمَايَتي مِن وَحشيةِ أبي السفاح… تَقَهقَرَ إلى الخلفِ و وَقفَ في مكانهِ مُصفَرَّ الوَجهِ و نَاداني بصوتٍ حَزينٍ مَمزوجٍ بالتَوَدُدِ و العَطفِ صوتٍ لَم يَرن في أذنيَّ مُنذُ اثنى عَشر عامًا عِشتُهَا لَديهِ:فاطمة….ابنتي..لا تخافي البابا..!
البابا!!لم يَكن يَخجَلُ و هو يَنطِقُ هذه الكلمة الشريفة على لسانهِ الوقح!!
فجأة صَرختُ بصوتٍ عالٍ :لا أريد أن تكون أبي و لأولِ مرةٍ تتجرأ فاطمةُ الساكتةُ و الخاضعةُ و الخانعةُ على الكلامِ و كأنَّ هناك صوتٌ قد عَلِقَ في حنجرتي الصغيرة منذ ستةِ أعوامٍ يُحاول الخروجَ و أكبُتُهُ بقوةٍ فَمَزقَ لي فؤادي و حنجرتي و وجودي و خَرجَ إلى العَلنِ و لم يعرف أحد حينها طريقة لإسكاتِهِ و لا حتى أنا .. ثُمَّ أخفیتُ رأسي خلف ظهر الضابط و استرسلتُ بكلامي قائلةً:ألم تكن مريم ابنتك إذاً؟ أما نادتك راجيةً مِنك العون?ألم تقل لك أنها شريفة و تتوسل بك و بإخوتِها ترتجي منكم العطف و الرأفة لكنها لم تجدها في وجوهكم المتجهمةِ لقد زوجتَها رَجُلاً لَم تَرغَب في الزواجِ منه لقد رفضتهُ عِدةَ مَرات إلا أنك أقنعتها بحجةِ أنه شابٌ ثري و في ليلةِ زفافها لم يستقر الحال بنا حتى دَقوا البابَ دقاً شديدًا عند الساعةِ الواحدةِ ليلًا يصرخ خلف الباب العريسُ الغاضبُ:افتح الباب يا ابن حسنة….افتحوا الباب يا اولاد (الز…)
ثم اجتذبَ ابنتك بفستان عرسها باكيةً و مضروبةً و ذليلةً إلى الداخلِ و رماها علينا قائلاً: هذه ابنتك (عاه…رة) وليست شريفة لقد خدعتني و سأفضحك عند العرب
حينها لم أنسَ وجهك المُرتعب المصفر أخذتَ مريم و زوجَها و عمي و توجهتم إلى عيادةِ الطبيب ليتم فحصها و هي تتضرعُ إليك و تتوسلُ و تقسم برأسك أنها شريفة و ما واقعت أحداً سوى زوجها و أنت كنت تستشيطُ غضبًا مهددًا إياها:والله لأقتلنَّك و أجعلنَّك عبرةً للجميع
لقد فحصها الطبيبُ و قال لكم إنها كانت باكرةً و سببُ عدم ظهور الدماء على فستانها الأبيض هو أنها حالة خاصة و غير نادرةٍ تكون لدى بعضَ الفتياتِ و حاول إقناعكم بالعلم لكنكم لم تستمعوا إلى حديثه…
حينها احتَدَمَ صَدرَ عبدالقادر غيظٌ و زجر في وجه الطبيب و بعثر الأوراق و خرجَ ناقمًا يهددك أنت و عمي بالفضيحةِ و يصرخ:
إن لم تذبحوها أفضحكم!!
و في صباحِ ذلك اليوم و بنزولِ الفادحةِ كان عليكم تطهير سمعة هذه العشيرة و الأسرة و جدران هذا المنزل المتهرئة كان بيتنا الكبير ذا الغرف الصغيرة و الأبواب المثقوبة إثر طلقاتٍ ناريةٍ قديمةٍ خرجت من بندقيةِ رجلِ يطالبُ بالثأرِ قد تحول إلى مجلسِ عزاءٍ جديدًا.
تَصيحُ أمي في غرفتنا و تَصك وجهها بكفيها و إلى جانبها أخواتي السبعة و بنات عمي الثلاثة و زوجة عمي كان البيت يضجُ بالعويلِ و النحيبِ.
لقد أقفلتم البابَ على الحريمِ في غرفةٍ واحدةٍ و نسيتم فتاةً صغيرةً لا تَبلغُ من العمرِ إلا ستة أعوامٍ لقد غفلتم عن فاطمة!!
كنتُ قد تسللتُ إلى القبو المظلمِ لأرى مريم وجدتها مُربَطة بالحبالِ التي كنا نربط بها خروف العيد!!!
مرميةً في زاويةِ القبوِ ترتعدُ فرائصها من الخوفِ و تئنُ وحيدةً و تكررُ بهمسٍ:انا شريفة و يستدرُ الفَزعُ الدموعَ من جوارحها و تناجي الرب أن ينقذها. حتى دنوتُ منها و أمسكتُ بأصابعِ يدها المشدودة بركبتها باكية قائلة:مريم…لا تخافي لن يؤذيك بابا حَدجَتني بنظرةٍ خائبةٍ و قالت:فطوم..لا تتركيني وحدي أنا أشعر بالخوف
حينها احتضنتُ جَسدها المثلج من الرعبِ و المَرتعش و وعدتها بأني لن أبرحَ هذا المكان أبداً فصارت ترتعش بحضني و كنتُ أحاولُ تدفِئتها جاهلةً أنها لا ترتعشُ من شدةِ البردِ بل من سورةِ الهلع!! الهلع من الموت!..
ما إن لَفتَ سَمعي صوتُ وَطْءِ خطوات تقتربُ من بابِ القبوِ حتى قفزتُ عن مَجلسي و دَخلتُ الخزانةَ القديمةَ الكبيرةَ و أغلقتُ بابها العتيق المثقب. حينها رأيتكم جميعاً من خلال الثقوبِ. تقتحمونَ القبوَ و وقفتم فوقَ رأسها كلأعمدة الثاويةِ بوجوهٍ مكفهرةٍ تعلوها نظرةُ السخط فبدأت مريم تتوسل إليكم واحدًا تلوَ الآخر.
نَظرت إليكَ بعينيها المُحمَرَّتين من البكاءِ و قالت:أبي..صدقني أنا شريفة..أحلف برأسك و برأس إخوتي أنني لم أفعل مايخزيكم و ما يلحق بكم العار لا تجعلهم يقتلوني يا أبي. و لم تستمع إليها و أجلت ببصرك عنها مقطباً حتى تَوسلَت بعمي و بإخوتي السبع من صغيرهم إلى كبيرهم و إلى أبناء عمي جميعاً. بعدها خرجَ أحمد ابن عمي الكبير و جاءَ بسطلِ ماءِ مملوءٍ و بدأ ينضحُ الماءَ عليها و هي تهزُ رأسها المُخضلَ و تأخذ أنفاساً عميقةً و كأنها تَعلمُ أنها الأنفاسُ الأخيرة. ثم تَحرك أخي مُحسن و سَحبَ أسلاكَ الكهرباءِ و لفَّها حَولها. و تَركتُم الكهرباءَ تأكلُ روحَها اليافعةَ فصارَ يهتزُ عودُها اليانعُ و ترتَجف كرجفةِ سمكةٍ علقت على ضفةِ نهرٍ أو كعصفورٍ ذُبِح أو رُبَما بأعيونكم كخروفِ عيدٍ نُحِر. كانت تُحدِق بي و جسمها يَرتَعشُ إثر صدماتِ الكهرباء مازالت صورة عينيها المحدقةَ بي ناشبة برأسي ألم تسأل نفسك لماذا كانت مريم تنظر إلى الخزانةِ و تَصرخُ بكلماتٍ غير مفهومة؟ هي كانت تناديني لأتدخل لكنني عجزتُ عن فتح فمي و عن البكاءِ و عن التنفسِ.. كان العجز يحتل كل وجودي فصرت جامدة في مكاني فأخذ بصري يلتبس… أنا أكرهكم جميعا أكرهك يا ابي!!!… فجأة سمعت صوت بكاءٍ مختنق نظرتُ إليه من خلفِ ذراع الضابطِ. رأيت والدي المغرور و المتكبر و القاسي لأول مرة جاثما على ركبتيه و يئن و يهز رأسهُ و جسدهُ السمين و يبكي بتضرعٍ و نَدَمٍ. قال بصوتٍ متهدج قد خنقه البكاء:لقد عاقبتي الجميع يا فاطمة.. إننا نعلم بعظيمِ ذنبنا… لا تحطمي فؤاد أبيك أكثر مما هو محطمٌ
أشار إليَّ بيديه المقيدتين و قال:تعالي إلىّ يا فطومة لن يضرك أحد
قلت بصوتٍ رخيمٍ و بلهجةِ يكسوها التردد: ستعاقبوني كما عاقبتم مريم. أجابني:لا لن نفعل!.. و لن أسمحَ لأحد أن يقتربَ منكِ صغيرتي .. إن عقوبةَ مريم كانت غلطة دفعنا ثمنها طيلةَ هذه السنوات جميعاً..كنّا نتعذبُ معاً لستِ الوحيدةَ من كانت تراودها الکوابیس لكنك الوحيدة من فعلت الصواب لذلك لستُ غاضباً منك..
أخذتُ خطواتٍ ثقيلةً نحوَهُ مشيتُ إليه كنت أخشاه لكنني أحبه أيضا!! وقفتُ بين يديهِ و بدأت أرتعد من الخوف فطوقَتْ ذِراعاهُ كحلقةِ سركٍ كبيرةٍ جَسَدي النحيلَ و ضَمني إلى صَدرهِ و هَمَس بأذني:لا تخافي شيئاً و والدك مازال على قيد الحياة.
بعد سماعي ذلك الكلام منه أجهَشتُ بالبكاءِ بين ذراعيهِ. فطوال السنوات الستة الماضية لم أشعر بالأمانِ مثل اليومِ قط…
نَظرَ إليه الطبيبُ من خلال نظارتهِ قائلاً: هل صَدقتَهُ بهذه السهولة؟ أخرجَ أنفاسَهُ المَكبوتةَ و تَحركَ على الكرسيِ الخشبي قليلاً ليستردَ رباطةَ جأشهِ و أجابَ ببرودةِ أعصابٍ مُصطنعة: نعم…لقد صَدقتُهُ لأنني كنتُ صغيراً..أما الآن أظنهُ كان يحاولُ التمثيلَ أمام الضابطِ كي يسترجعَ الحضانةَ.
أطلق الطبيبُ ضحكةً خفيفةً و أجالَ ببصرهِ نحوَ الملف و قال مستدركاً:أنتَ لا تعلم بما يجري في قلوب الناس لا تكن قاسيًا في حكمك عليهِ أخرَجَ الأوراقَ من ملفٍ أصفر اللونِ و ناوَلها إليه و استأنفَ كلامهُ:هذه نتائجُ فحوصاتك ألتي أجرَيتَها قبل ثلاثةِ أشهرٍ كُلها تؤكدُ اختلالك الجنسي .
تَفرسَ بِدَهشةٍ ملامحَ وجه الطبيب الجادةَ و أخذ ينظر إلى الأوراقِ و يُقلبها بحبورٍ.
فقال له الطبيب:لقد وقعتُ لك التصريحَ أيضاً لديك الآن الإذن و التصريح لإجراء عملية التحولِ فابتسم إليه بالمقابل و شكره على كل شئٍ ثم مدَّ ذِراعه ليستلمَ التصريحَ فحدجه الطبيبُ بنظرةٍ هادفةٍ قائلاً: فاطمة… أنت رجلٌ الآن! كن رجلًا صالحًا
الرسم : زهراء صاكي