أنا في ساحة الصمت؛ أسرح في شوارعها؛ وقد وصلت إلی رصیف میم الصمت؛ سأبحث عن طریق للخروج.
ما زلت غارقة في أفکاري؛ فتمرّ اللحظات بصعوبة. في تلك اللحظة سمعت صوتاً هادئاً یهمس لي؛
نهایة الرصیف یوجد زقاقا ضیقا؛ حينما تصلِ إلی النهایة ستجدین حدیقة الأصوات…
قلت: حدیقة الأصوات؟ من فیها؟ رأیت الزقاق… یا إلهي… الزقاق ضیق ومظلم!! سمعت الصوت الهادئ مرة أخری..
یوجد في الحدیقة کل الحاءات فلابُدّ أن تمري من الزقاق الضیق المظلم لتصلِ إلی فسحة الحیاة ورحابتها.
إرتبکت من همس الصوت… فقلت لنفسي ألبّي نداء الصوت وأری إلی أین ینتهي المطاف.
بدأ قلبي یخفق بشدة… أسرعت في المشي وأنا مرتبکة وقلقة جداً… ماذا ینتظرني؟؟ من هو صاحب الصوت؟ ترددّت في خطواتي… أأستمر أم أرجع؟!
الصوت الهادئ : -لاتتوقفي… استمري، حدیقة الحاءات قریبة منك…
شعرت بقوة عظیمة… رجوتُ قدماي… أتساعداني لألتحق بالصوت الهادئ؟
شاهدت بخیالي أن أتمرجح علی قوس قزح الحیاة یمیناً ویساراً و أرقص علی طیف ألوانه.
دخلت الزقاق المظلم فارتجفت من شدة الخوف والحیرة…
یسود الصمت في المساحات القصیرة الضیقة بین البیوت، وأرض الزقاق منغمسة بالمیاه ومحفوفة بالصخر… في تلك اللحظة لم أرَ غیر أضواء ضعیفة؛ الضوء ینعکس على قدماي لأصل إلی ذلك الضوء الضئیل..
أسرعتُ وأسرعتُ إلی ذلك الضوء، بدأ قلبي وقدماي تشتدّ قواهما.. الضوء ینعکس فیُنیر دربي… كم أحب أن أنهي هذا الطریق وأشاهد الحدیقة والحاءات… فوقعتُ في إحدی بركات میاه الزقاق… نعم… بقیت أنا واللیل الدامس والزقاق والصوت الغامض والحدیقة التي لم أعبرها…
نهضتُ من مکاني؛ تتعثّر قدمي المُنهمکين من ألم الخوف؛ خطوة تلو أخرى… یا له من مصیر ویا له من طریق بلانهایة…
همس صوته مرة : أرافقك؛ علیك أن تنصتي جیداً وبصفوة وهدوء..
الفتاه : إستمرت.. بدأ الضوء یشع علی وجهها المبلل والشاحب.
رأت أحداً جالساً علی کرسي خشبي.
نادت بصوت حزین : صبااح الخیر؛ -لم تسمع جواباً!- لا أسمع رداً! إنّه لا یجیب. أین أنا؟ هل هذه هي الحدیقة؟ أدهشها هذا المکان ومن شدة الخوف والدهشة أنّ علیها الرجوع! لکن تغیر رأیها. إرتسم علی وجهها الشاحب أسئلة من الخوف؟
لا لا! ینبغی أن أدخل. لن أعود إلی الزقاق المظلم. لکن لن أعود إلی الصمت المُمیت… أنّني ضجرت من حیاتي فكیف أرجع إليها. في تلك اللحظة أدارت له رأسها مرة أخری ونادته بصوت عالٍ ومرتعشٍ، ظنّت أنّه لن یکترث لندائها.
رفع رأسه بهدوء غریب وقبل أن یبدأ بالکلام، استیقنت من ملامح وجهه، أن هذا هو صاحب الصوت الهادئ. فقال لها: صبااح الخیر.
سألته هل أنت صاحب الصوت الهادئ الذي کان يرافقني في طریقي المظلم؟
نعم! أعرفك…
هل تعرف من أنا؟!
-نعم؛ أنتِ… أنتِ؛ أنتِ طائر مکسور الجناح؛ أنت فراشة شاحبة اللون، أنت وردة ذبل لونها؛ أنتِ نهرا جفت میاه؛ أنت قلبا مکسورا خواطره؛ أنتِ شمسا بذلت ضیاءها… وأنتِ وأنتِ وأنتِ… هل تعلمین من أنتِ؟! نعم أنتِ كل الحیاة.. حینما سمعت کلامه اختلج صوتها بعبرات حزینة وظلت تنظر ملهوفة إلی عینیه، تحسسّت بیدها المرتعشة ودموعها الساخنة التی تنسکب وحینما لمست خدّها البارد شعرت بکآبه في نفسها من عواصف الدنیا التي مرّت بها وأجبرتها علی الصمت.
إجلسي هنا ولا تخشي من شيئ ولا تبکي. إجلسي علی هذا الکرسي. هدئت الفتاة وجلست جنب صاحب الصوت الهادئ وهي تنظر إلی أزهار الحدیقة بصمت رهیب..